كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} الآية.. والذين قال فيهم: {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} ردًا على قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا} ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا..
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس (رضي) قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وأبو أنس وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟!... الخ.
ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود. وقد كان (فيلو) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول: إن لله ابنًا هو كلمته التي خلق بها الأشياء. فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا: إن عزيرًا ابن الله بهذا المعنى.
ومن هذا البيان يتضح ما وراء حكاية القرآن لقول اليهود هذا- في هذه المناسبة التي يتوخاها السياق- فهي تقرير حقيقة ما عليه فريق من أهل الكتاب من فساد الاعتقاد، الذي لا يتفق معه أن يكونوا مؤمنين بالله، أو أن يكونوا يدينون دين الحق. وهذه هي الصفة الأساسية التي قام عليها حكم القتال. وإن يكن القصد من القتال ليس هو إكراههم على الإسلام؛ وإنما هو كسر شوكتهم التي يقفون بها في وجه الإسلام؛ واستسلامهم لسلطانه ليتحرر الأفراد- في ظل هذا الاستسلام- من التأثر بالضغوط التي تقيد إرادتهم في اختيار دين الحق من غير إكراه من هنا أو من هناك.
أما قول النصارى المسيح ابن الله وأنه ثالث ثلاثة فهو- كما قلنا- شائع مشهور، وعليه جميع مذاهبهم منذ أن حرف بولس رسالة المسيح القائمة على التوحيد كبقية الرسالات؛ ثم أتمت تحريفها المجامع المقدسة، وقضت على أصل فكرة التوحيد قضاء نهائيًا!
وسنكتفي مرة أخرى بنقل ملخص جيد في عقائد النصارى عن تفسير المنار للأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا- جاء فيه بعنوان: ثالوث: Trinite- y.
كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معًا في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحًا وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام. وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني وانبثاق الأقنوم الثالث، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة، وصفاتهم المميزة وألقابهم. ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت؛ ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد. وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم (أحدهما) الآيات التي ذكر فيها الأب والابن والروح القدس معًا (والآخر) التي ذكر فيها كل منهم على حدة والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر.
والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي. وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين فإن ثيوفيلوس أسقف إنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة ترياس باليونانية، ثم كان ترتليانوس أول من استعمل كلمة ترينيتاس المرادفة لها ومعناها الثالوث، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق؛ وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض والسابيليين الذين كانوا يعقتدون أن الأب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس والأريوسيين الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزليًا كالأب بل هو مخلوق منه قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له، والمكدونيين الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوما.
وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن الروح القدس منبثق من الأب، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضًا، وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة.
وعبارة (ومن الابن أيضًا) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أثبتت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضادًا للكتاب المقدس والعقل، وقد أطلق سويد تيراغ الثالوث على أقنوم المسيح معلمًا بثالوث. ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم. وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الأب، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين.
وقد ذهب (كنت) إلى أن الأب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت، وهي القدرة والحكمة والمحبة، أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط، وقد حاول كل من هيجين وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساسًا تخيليا وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية؛ وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابيليين على الخصوص. اهـ.
ومن هذا العرض المجمل المفيد، يتبين أن جميع الطوائف والمذاهب المسيحية الكنسية لا تدين دين الحق، الذي يقوم على توحيد الله سبحانه؛ وعلى أنه ليس كمثله شيء؛ وأنه لا ينبثق منه سبحانه أحد!
وكثيرًا ما ذكر الأريوسيون على أنهم موحدون وإطلاق اللفظ هكذا مضلل فالآريوسيون لا يوحدون التوحيد المفهوم من دين الله الحق، إنما هم يخلطون! فبينما هم يقررون أن المسيح ليس أزليًا كالله- وهذا حق- يقررون في الوقت نفسه أنه (الابن)! وأنه مخلوق من (الأب) قبل خلق العالم! وهذا لا يعتبر من التوحيد الحقيقي في شيء!
ولقد صدر حكم الله بالكفر الصريح على من يقولون: المسيح ابن الله.
وعلى من يقولون: المسيح هو الله. وعلى من يقولون: إن الله ثالث ثلاثة. ولا تجتمع صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة، ولا في قلب. إنما هما أمران مختلفان!
والتعقيب القرآني على قول اليهود: {عزير ابن الله}. وقول النصارى: {المسيح ابن الله} يثبت أنهم في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبل ومعتقداتهم وتصوراتهم: {ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}.
فهو أولًا يثبت أن هذا القول صادر منهم، وليس مقولًا عنهم. ومن ثم يذكر {أفواههم} لاستحضار الصورة الحسية الواقعية- على طريقة القرآن في التصوير- إذ أنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم. فهذه الزيادة ليست لغوًا- تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- وليست إطنابًا زائدًا، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية؛ فهي التي تستحضر صورة القول، وتحيلها واقعية كأنها مسموعة مرئية! وذلك فضلًا على ما تؤديه من معنى بياني آخر- إلى جانب استحياء الصورة وإثباتها- وهو أن هذا القول لا حقيقة له في عالم الواقع؛ إنما هو مجرد قول بالأفواه، ليس وراءه موضوع ولا حقيقة!
ثم نجيء إلى ناحية أخرى من الإعجاز القرآني الدال على مصدره الرباني. ذلك قول الله سبحانه: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}.
ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية: إن المقصود بها أن قولتهم ببنوة أحد لله، تماثل قول المشركين العرب ببنوة الملائكة لله.. وهذا صحيح.. ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى. ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثًا بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر القديمة والإغريق. مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب- وبخاصة النصارى- وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم بولس الرسول أولًا؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيرًا..
إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية. وأزوريس يمثل (الأب) وحوريس يمثل (الابن) في هذا الثالوث.
وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة الكلمة هي الإله الثاني ويدعى أيضًا ابن الله البكر.
والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله: برهما في حالة الخلق والتكوين. وفشنو في حالة الحفظ والقوامة. وسيفا في حالة الإهلاك والإبادة.. وفي هذه العقيدة، أن فشنو هو (الابن) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في (برهما)!
وكان الأشوريون يؤمنون بالكلمة، ويسمونها (مردوخ) ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر!
وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم. وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات.
إشارة إلى التثليث.. وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل!
ومراجعة عقائد الوثنيين القدامى- التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن- مع هذا النص القرآني: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}- كما أنها تثبت أن أهل الكتاب لا يدينون دين الحق، ولا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح- تبين كذلك جانبًا من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، بالدلالة على مصدره، أنه من لدن عليم خبير..
وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك، بقوله تعالى: {قاتلهم الله أنى يؤفكون}.
و.. نعم.. قاتلهم الله! كيف يُصرفون عن الحق الواضح البسيط، إلى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدى عقل أو ضمير؟!
ثم ينتقل السياق القرآني إلى صفحة أخرى من صحائف الانحراف الذي عليه أهل الكتاب؛ تتمثل في هذه المرة لا في القول والاعتقاد وحدهما؛ ولكن كذلك في الواقع القائم على الاعتقاد الفاسد: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
وفي هذه الآية استمرار في وجهة السياق في هذا المقطع من السورة. من إزالة الشبهة في أن هؤلاء أهل كتاب.. فهم إذن على دين الله.. فهي تقرر أنهم لم يعودوا على دين الله، بشهادة واقعهم- بعد شهادة اعتقادهم- وأنهم أمروا بأن يعبدوا الله وحده، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله- كما اتخذوا المسيح ابن مريم ربًا- وأن هذا منهم شرك بالله. تعالى الله عن شركهم.. فهم إذن ليسوا مؤمنين بالله اعتقادًا وتصورا؛ كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعًا وعملًا.
وقبل أن نقول: كيف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، نحب أن نعرض الروايات الصحيحة التي تضمنت تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للآية. وهو فصل الخطاب.
الأحبار: جمع حَبر أو حِبر بفتح الحاء أو بكسرها، وهو العالم من أهل الكتاب وكثر إطلاقه على علماء اليهود.. والرهبان: جمع راهب، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة؛ وهو عادة لا يتزوج، ولا يزاول الكسب، ولا يتكلف للمعاش.
وفي الدر المنثور.. روى الترمذي (وحسنه) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه».